
القاهرة ()- تشهد صناعة جديدة ومثيرة للجدل ببطء عند تلاقي الحزن والتكنولوجيا “قطاع روبوتات الدردشة المتعلقة بالموت”، المعروف أيضًا بروبوتات الموت أو رموز الأشباح الرقمية.
كما تذكر تقرير من موقع كالكاليستك، تُعتبر هذه الصناعة التي تجمع بين الذكاء الاصطناعي والذاكرة الرقمية شرح طريقةً للأشخاص للتفاعل مع تماثيل رقمية لأحبائهم المتوفين، مما يمنحهم شعورًا بالعزاء أو التواصل المستمر.
ومع ازدهار هذه الصناعة المتعلقة بالحياة الآخرة الرقمية، والتي يُطلق عليها في بعض الأحيان “تكنولوجيا الحزن”، تثار تساؤلات أخلاقية ونفسية وفلسفية عميقة حول كيفية إدارتنا لمشاعر الحزن وحدود التجربة الإنسانية.
التقاطع بين الابتكار والألم
تعود بدايات صناعة روبوتات الموت إلى أوائل القرن الحادي والعشرين، لكنها شهدت تطورًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، وذلك بفضل التقدم في الذكاء الاصطناعي القائم على النماذج التوليدية.
هذه الخدمات تُتيح للمستخدمين إدخال محتوى شخصي مثل الرسائل النصية، رسائل البريد الإلكتروني، التسجيلات الصوتية، مقاطع الفيديو، والمذكرات في خوارزميات قادرة على إنشاء تماثيل رقمية للمتوفى تشبه الواقع، مما يمكّن هذه الرموز من المشاركة في المحادثات، وتقليد أنماط كلام المتوفين وسلوكياتهم وأصواتهم.
تحمل هذه الصناعة إمكانيات اقتصادية هائلة، حيث تقدم شركات مثل Project December وSeance AI وHereAfter AI خدمات لإنشاء نسخ رقمية مقابل كلفة مالية.
يمكن للمستخدمين حتى التفاعل مع هذه الرموز، مما يُبقي المتوفى “حيًا” رقميًا. بالنسبة للبعض، يوفّر هذا راحةً خلال فترة الحداد، بينما يعتبره آخرون تعديًا على الحدود الأخلاقية ويغطي خطوط الفصل بين الذاكرة والمحاكاة.
المخاطر الأخلاقية والنفسية
تدور النقاشات حول روبوتات الموت حول سؤال محوري هل تُساعد هذه التقنية في تخفيف الحزن، أم أنها تعيق مسار التعافي من جهة، تُقدم هذه الرموز شعورًا بالتواصل، مما يتيح للمُعزّين فرصة البقاء على اتصال بأحبائهم لفترة أطول بعد وفاتهم.
ومع ذلك، يُثير النقاد تساؤلات حول إمكانية أن تعزز التمثيلات الرقمية للمتوفى الاعتماد العاطفي غير الصحي، مما يُشوّه عملية الحزن الطبيعية.
تمثل المخاوف النفسية مصدر قلق حقيقي. في عام 1966، اكتشف عالم الحاسوب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، جوزيف وايزنباوم، أن المستخدمين يُعزون الذكاء والعواطف إلى روبوت المحادثة البسيط “إليزا”، على الرغم من كونه مجرد برنامج.
وقد أظهر بحثه أن الروبوتات قد تُثير “التفكير الوهمي” لدى الأشخاص العقلانيين تمامًا، وهي ظاهرة لا تزال تمثل قضية مركزية في دراسة التفاعل بين الإنسان والحاسوب. أما بالنسبة لروبوتات الموت، فإن المخاطر أكبر فالنموذج الرقمي لشخصية متوفاة ليس مجرد تفاعل، بل هو محاكاة تعكس شخصيتها وشرح طريقة حديثها وأصواتها.
تشير الدكتورة بولا كيل، الباحثة في جامعة نيويورك بلندن، إلى أن جاذبية هذه الرموز الرقمية تكمن في تطلع الإنسان للحفاظ على جوانب من ذاته، خاصةً عندما يواجه الموت. ومع ذلك، تحذر من أن هذه الراحة قد تأتي بتكلفة.
عندما يعيد شخص آخر تجسيد المتوفى، وخاصة من خلال التكنولوجيا، يمكن أن تُشوه ذاكرته أو تتغير، مما يفقدها القيمة العاطفية التي تحملها الذكريات الطبيعية.
العلاقات المتغيرة مع الموتى
تتحدى الرموز الرقمية للمتوفين التصورات التقليدية للحداد والموت. كان الموتى في الماضي صامتين؛ ولا تُحيا ذكراهم إلا من خلال الصور والقصص والتذكارات. أما اليوم، فإننا نعيد بناء شخصية أحبائنا بناءً على بصماتهم الرقمية، مُحولين إياهم إلى حضور دائم في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي أجهزتنا، وفي حياتنا اليومية.
يشير الدكتور تال مورس، المحاضر في المركز الأكاديمي متعدد التخصصات في القدس، إلى أن بعض الخدمات، مثل تلك التي تمكّن المستخدمين من إرسال رسائل بعد الوفاة، تُعتبر أكثر قبولًا.
تمنح هذه الخزائن الرقمية الأشخاص التحكم في الرسالة، المتلقي، والتوقيت، مما يجعلها أقل تدخلاً من النسخ الرقمية الكاملة. ولكن عندما تسعى التكنولوجيا لإعادة شخص ما كرمز تفاعلي، تزداد التأثيرات العاطفية تعقيدًا.
بالنسبة للبعض، تُعتبر روبوتات الموت جسرًا عاطفيًا يُساعد في تجاوز الحزن. لكن بالنسبة للآخرين، قد تمثل المحاكاة الرقمية شكلاً متطرفًا من الإنكار، مُسببةً ضررًا عاطفيًا من خلال تشجيع المستخدمين على الخلط بين الروبوت والشخص الحقيقي. كما يحذر النقاد من أن الخطر يكمن في إمكانية استغلال الحزن تجاريًا، مع استغلال التبعات العاطفية لتحقيق الربح.
تسويق الحزن
مع توسع صناعة روبوتات الموت، تعمل شركات التكنولوجيا على تحويل الحزن إلى منتج بشكل متزايد. الإمكانات الاقتصادية هائلة الخدمات التي تعد بتمديد وجود المتوفى قد تُسوّق كخيارات مميزة، مما يؤدي إلى تبعيات عاطفية ومالية. يُحذر النقاد من أن هذا قد يُمثل مستوىً متطرفًا من التسويق التجاري للموت، حيث يتحول حتى الحزن إلى فئة تجارية.
يضيف الدكتور مورس أن هذا الشكل الجديد من التكنولوجيا، سواء كان مقصودًا أم لا، يغيير الشرح طريقة التي نتعامل بها مع الموت. إذ أصبح الموتى، الذين كانوا سابقًا بعيدين وصامتين، مرئيين الآن في خلاصاتنا، وحاضرين على وسائل التواصل الاجتماعي، ومدرجين في تذكيرات حفلات الميلاد والذكرى السنوية.
لم يعد الموت أمرًا مخفيًا؛ بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتنا الرقمية اليومية، يُذكرنا باستمرار بما فقدناه.
أقرا أيضًا..
مستقبل الحزن والذكاء الاصطناعي
بينما قد يجد بعض المعزين عزاءً في التفاعل مع الرموز الرقمية لأحبائهم، يرى آخرون أن ذلك يمثل خطوة خطيرة نحو تآكل الحدود بين الذاكرة والخيال.
ويبقى السؤال هل من الصحي التفاعل مع نسخة رقمية لشخص متوفٍ، أم أن ذلك يُخاطر بتشويه طبيعة الحزن ذاتها
مع توسع صناعة روبوتات الموت، يتضح أنها تُثير أكثر من مجرد مخاوف تكنولوجية. إنها تتعلق بأسئلة أخلاقية ونفسية وفلسفية عميقة حول طبيعة الحياة والموت والذاكرة.
بينما قد تقدم هذه التقنيات نوعًا من الراحة المؤقتة، فإنها تُجبرنا أيضًا على مواجهة حقائق مُزعجة حول كيفية تعاملنا مع الخسارة، وما إذا كنا مستعدين للتخلي عن الماضي أو الانغماس فيه إلى أجل غير مسمى.
التعليقات