
بعد رحيل البابا فرنسيس عن عمر يناهز 88 عامًا، تتركز الأنظار على الفاتيكان حيث يبدأ حدث يُعرف بـ “الكونكلاف”، وهو من أكثر الأحداث الدينية إثارة وغموضًا، حيث يتم انتخاب بابا جديد للكنيسة الكاثوليكية.
هذا الحدث الذي يتمتع بخصوصية دينية وروحية، يحوز على اهتمام عالمي بسبب تأثيره الكبير على قيادة أكثر من 1.4 مليار كاثوليكي في جميع أنحاء العالم.
على مر الزمن، عُرفت الكنيسة الكاثوليكية بالطقوس والتقاليد العريقة التي تُمارس خلال عملية اختيار البابا الجديد، الذي يمثل الرأس القيادي للكنيسة وأتباعها، والتي تحمل في طياتها تاريخًا غنيًا ورموزًا روحية عميقة.
في هذه المقالة، سنتناول عملية الكونكلاف، ونعرض أهميتها الروحية والدينية بالنسبة للكاثوليك في اختيار البابا الجديد، كما سنكشف عن سر الأبواب المغلقة.
رحيل البابا فرنسيس… نهاية حقبة
أعلن الفاتيكان صباح يوم الإثنين، 21 أبريل 2025، عن وفاة البابا فرنسيس، أول بابا من أمريكا اللاتينية، عن عمر بلغ 88 عامًا، بعد فترة طويلة من المعاناة الصحية، انتهت بإصابته بالتهاب رئوي مزدوج.
كان انتخابه في عام 2013 لحظة فارقة في التاريخ، ليس فقط لأنه جاء من خارج القارة الأوروبية، بل لأنه حمل رؤى إصلاحية وانفتاحية هزت كيان المؤسسة الفاتيكانية.
ورغم ظروفه الصحية في السنوات الأخيرة، استمر البابا فرنسيس في الظهور بشكل فعّال في القضايا العالمية، بدءًا من قضايا الهجرة والتغير المناخي، وصولًا إلى العدالة الاجتماعية، حيث كان صوته قويًا في الدفاع عن السلام في أوقات النزاعات.
ما هو الكونكلاف وما الغرض من الأبواب المُغلقة
مع شغور الكرسي الرسولي (كرسي بابا الفاتيكان)، تُبدأ عملية انتخاب البابا الجديد عبر اجتماع مغلق يُسمى “الكونكلاف”، حيث يجتمع فيه الكرادلة المصرح لهم بالتصويت لاختيار الوريث للبابا الراحل.
كلمة “كونكلاف” باللغة اللاتينية تعني “مغلق بالمفتاح”، وهذا يشير إلى العزلة التامة التي يتعرض لها الكرادلة خلال تلك العملية، إذ يُمنعون من استخدام الهواتف أو الإنترنت أو حتى التواصل مع العالم الخارجي.
ويعكس المصطلح أيضًا المكان الذي يُعقد فيه الاجتماع، بينما يُفهم أيضًا على أنه يشير إلى العملية الانتخابية نفسها، والهدف من هذه السرية التامة هو حماية الانتخابات من أي تدخل خارجي أو تأثيرات خارجية.
من يحق لهم التصويت خلال الكونكلاف
مجموعة من الكرادلة صورة أرشيفية
يشمل الكونكلاف الكرادلة الذين لم يتجاوزوا سن الثمانين وقت وفاة البابا، وحسب التقديرات الحديثة، يحق لحوالي 120 كاردينالًا المشاركة في هذه الانتخابات.
يتم استدعاؤهم من شتى أنحاء العالم إلى روما، حيث يقيمون في بيت القديسة مرتا بالفاتيكان تحت حراسة أمنية قوية.
كل كاردينال يحصل على بطاقة اقتراع مكتوب عليها “Eligo in Summum Pontificem”، أي “أنتخب كحبْر أعظم”، ويُطلب منه كتابة اسم المرشح الذي يراه مناسبًا لمنصب البابا الجديد.
يُحظر على الكرادلة التصويت لأنفسهم، وتُجرى عمليات الاقتراع في هدوء داخل كنيسة سيستينا الشهيرة بلوحاتها التي أنجزها الفنان الكبير مايكل أنجلو.
مراحل عملية الاقتراع… الدخان الأبيض أو الأسود
تبدأ عملية الاقتراع عادة بعد مرور 15 إلى 20 يومًا على وفاة البابا، مع إجراء أربع جولات تصويت يوميًا، اثنتان منها صباحًا واثنتان بعد الظهر.
بعد كل جولة، تُجمع أوراق الاقتراع وتُحرق في مدخنة خاصة داخل كنيسة سيستينا.
إذا لم يحصل أي مرشح على ثلثي الأصوات (معدل لا يقل عن 80 صوتًا من أصل 120)، تُضاف إلى أوراق الاقتراع مادة كيميائية تُنتج دخانًا أسود يُرى من ساحة القديس بطرس، وهو ما يُعلن فشل الاقتراع.
أما إذا حصل أحد المرشحين على الأصوات المطلوبة، تُحرق الأوراق بدون إضافة مواد كيميائية، مما يُنتج دخانًا أبيض يُعلن عن انتخاب البابا الجديد.
يلي ذلك الإعلان التاريخي من شرفة الكاتدرائية “Habemus Papam” (لدينا بابا).
من هم المرشحون المحتملون بابا من آسيا أو أفريقيا
وسط التحولات العالمية والتغيرات داخل الكنيسة، تتزايد التوقعات حول إمكانية انتخاب أول بابا من القارة الأفريقية أو الآسيوية.
لقد ألمح المراقبون إلى إمكانية اختيار الكنيسة هذه المرة بابا يجسد التنوع المتزايد للكاثوليك، خاصة أن أكثر من نصف عددهم يعيشون اليوم في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.
تتردد أسماء عدة كمرشحين محتملين، بما في ذلك الكاردينال بيتر توركسون من غانا، أحد الشخصيات البارزة في الفاتيكان، والكاردينال لويس أنطونيو تاغلي من الفلبين، الذي يحظى بشعبية واسعة ورؤية حديثة، بالإضافة إلى بعض الكرادلة الأوروبيين المعروفين بأفكارهم المحافظة.
الطقوس اليومية داخل الكنيسة الرمزية والطقوس
خلال الكونكلاف، يرتدي الكرادلة عباءات زرقاء قاتمة مع أحزمة حمراء تعبر عن استعدادهم للتضحية من أجل الكنيسة.
يُسيرون يوميًا من بيت القديسة مرتا إلى كنيسة سيستينا حيث تعقد الجلسات الانتخابية.
يُطلب من كل كاردينال أن يطوي ورقة اقتراعه ثم يتقدم خطوة بخطوة نحو المذبح ويضع الورقة في كأس ذهبي، مما يعكس الطابع الديني والروحاني للعملية.
بعد الفرز، تُعلن النتائج أمام المشاركين، ويتم اتخاذ القرار النهائي بناءً على الأغلبية المؤهلة.
احتمالية تعديل الإجراءات
إذا لم يتمكن الكرادلة من اختيار بابا جديد بعد عدة أيام، يمكن تعديل بعض قواعد التصويت، مثل حصر عدد المرشحين إلى اثنين أو تقليل النسبة المطلوبة للفوز إلى أغلبية بسيطة (النصف زائد واحد).
ومع ذلك، فإن هذه الخطوة عادة ما تُنتهج في مراحل متأخرة جداً من الجمود الانتخابي.
لحظة الإعلان… وظهور البابا الجديد
عند انتخاب بابا جديد، يُسأل إن كان يقبل بهذا المنصب، وفي حال موافقته، يُطلب منه اختيار اسم بابوي جديد. أسماء مثل “فرانسيس”، “يوحنا بولس”، و”بندكتوس” كانت رمزية لكل حقبة بابوية.
بعد اختياره، يرتدي البابا الجديد الرداء الأبيض ويظهر من شرفة كاتدرائية القديس بطرس ليقدم بركته الأولى للجماهير في الساحة، حيث يرد الكاردينال المكلّف “Habemus Papam”.
تقليد الدخان… رسالة للعالم
دخان منبعث من مدخنة كنيسة صورة أرشيفية
من بين الطقوس التي أسرت خيال البشر لعقود من الزمن، يعتبر تقليد الدخان المنبعث من مدخنة كنيسة سيستينا علامة مميزة.
في كل مرة تُحرق فيها أوراق الاقتراع، يترقب المؤمنون لون الدخان الأسود يعني “لم ينجح الانتخاب”، بينما الأبيض يشير إلى “تم انتخاب بابا جديد”.
هذا التقليد البسيط أصبح رمزاً عالمياً لانتقال السلطة داخل الكنيسة، حيث يُحظر تمامًا استخدام وسائل الإعلام لنقل الأخبار من داخل القاعة.
مراسم الكونكلاف الحديثة… أسرع من ذي قبل
بالرغم من تعقيد العملية، إلا أن الانتخابات البابوية في العصر الحديث أصبحت أسرع بالمقارنة مع العصور السابقة.
أطول كونكلاف في التاريخ استغرق 34 شهرًا في القرن الثالث عشر، بينما لم تستغرق انتخابات البابا فرنسيس عام 2013 أكثر من يومين.
التغيرات الزمنية لم تُغير من التقاليد، فتبقى الكونكلاف تجربة فريدة تمزج بين الديمقراطية الدينية، الغموض التاريخي، والتأثير العالمي.
اقرأ أيضًا
ما هو مستقبله الكنيسة بعد الكونكلاف
يعتبر الكثيرون هذه الانتخابات نقطة تحول في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. التحديات العديدة التي تواجهها، من قضية الانفتاح إلى انقسامات داخلية وتراجع أعداد الكهنة، تضع البابا الجديد أمام أجندة معقدة.
كما أن العلاقة بين الفاتيكان والعالم الخارجي تتسم بالدقة، مع قضايا سياسية وأخلاقية كبيرة تتطلب قيادة تتمتع بالحكمة والشجاعة والتجديد.
هذا الحدث يُعتبر لحظة تاريخية وروحية فريدة، حيث ينتظر العالم لحظة خروج الدخان الأبيض، ليعرف من سيكون الشخص الذي سيحمل لقب “الحبر الأعظم” ويقود الكنيسة الكاثوليكية في عالم متغير.
التعليقات